يومَ تزوجت إنجي، أمضى والدها النهار كله منزعجا.

وعندما بدأت مراسم الزفاف في المساء، رافقها إلى الفندق ونزل معها على الدرج باتجاه الصالة؛ صافح العريس بسرعة، ثم اختفى بين الأقارب.

"كان نفسي يسلّم عليّ ويبوسني.. ممكن كان متضايق لأني حسيب البيت، ويبقى لوحده"، تقول إنجي نور الدين ذات الثلاثين عاما.

ولا تزال إنجي تحاول أن تحقق لوالدها ذي الـ 76 عاما أمنيته الوحيدة التي يريدها منها، وتقول "الحمدلله إنه موجود بحياتي".

أما أميمة (اسم مستعار) فتحاول الآن بدء علاقة "طبيعية" مع والدها بعد أن أمضت أكثر من عشرين عاما في معارك معه تسببت لها بجروح عاطفية، وبكسر في الذراع عندما ضربها مرة بسبب شجارها مع أختها وصراخها بصوت عال.

تحدثت بي بي سيعربي مع عدد من الشابات العربيات حول علاقاتهن بآبائهن بمناسبة عيد الأب (21 حزيران/يونيو). صحيح أن كل تجربة هي تجربة فردية، لكن قد تجد كل واحدة منّا شيئا يذكرها بوالدها في هذه القصص.

هنا قصتان لمصريتين في بداية الثلاثينيات، ولأبوين تعود أصولهما إلى إحدى محافظات الصعيد، تتحدث كل منهما عن أكثر ما تذكره عن أبيها.

"بعد أن أنجبت صرت أفهمه أكثر"

توفيت أم آنجي نور الدين قبل عشر سنوات، وبعد أن تزوجت أختها الوحيدة بقيت وحدها برفقة والدها في بيت العائلة في القاهرة حتى زواجها.

تقول إن والدها رفض أن يتزوج بعد وفاة أمها التي "أحبها كثيرا، ورفض أي شخص آخر مكانها .. وكان دائما يقول سأمضي بقية حياتي مع بناتي".

"ومع أنه صعيدي، وفي الصعيد المعروف أنهم يحبون أن يُرزقوا بأولاد ذكور، لم تكن عقليته هو هكذا أبدا".

كما رفض والد إنجي، وكان مدير مدرسة، أن تتزوج أي من ابنتيه من أقاربهما رغم محاولات كثيرة من قبل الأهل، فهو معارض لزواج الأقارب. صرامة موقفه في هذا الموضوع لم يكن يعادلها إلّا صرامته في موضوع تعليم ابنتيه.

حصلت إنجي على شهادة بكالوريوس في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، وعملت في إحدى المحطات التلفزيونية، وكان والدها أول من يتصل بها كلما خرجت في تغطية مباشرة لحدث ما، وكان يخبرُ كل معارفه بأن ابنته ستظهرُ على الشاشة ليتابعوها، حتى أنه كان كثيرا ما يناقش مواضيع حلقاتها مع أصحابه.

حتى الآن يلومُها لأنها لم تتابع تعليمها العالي. "كان عايزني أبقى معيدة في الكلية.. كان ده من ضمن أحلامه. أنا نفسي أولادي يكبروا وأكمل دراستي عشان أحقق أمنية حياته"، تقول إنجي وهي أم لطفلين لم يبلغ أكبرهما الرابعة.

لكن حلمها هي أن تعود لعملها بعد انتهاء انقطاع عنه بسبب الإنجاب وتربية طفليها، وأن يصبح لها برنامجها التلفزيوني سواء أكان اجتماعيا أو حتى في مجال الأخبار.

لا تمانع إنجي أن والدها كان، قبل زواجها، يوصلها دائما إلى كل مكان تقريبا، ويحضّر لها طعام الفطور، حتى أنه كان يحدد لها محافظات معينة لتغطيها في فترة الانتخابات، مثلا، كي يكون قادرا على اصطحابها.

أسألُها إن كانت قد شعرت بالتقييد لحريتها بسبب كل تلك المرافقة الدائمة. "قبل الزواج كنت أشعر أنه كان يخنقني.. وكنت دايما أقول له أنا مش صغيرة! إنت معاي في كل مكان ليه؟ ولكن بعد أن أنجبت أستطيع أن أفهمه أكثر".

مع ذلك تعتبر إنجي نفسها "محظوظة" لحصولها على هكذا أب؛ إذ تقول إنها تعرف أشخاصا كثيرين علاقتهم سيئة مع آبائهم؛ كأن يكون الأب قد تزوج مرة ثانية وترك زوجته الأولى وأولادهما.

وتعرف عددا من الآباء الذين لم يساهموا بزيجات أولادهم وبناتهم، وآباء آخرين يعيشون مع عائلاتهم ولكن دون أن يكون لوجودهم معنى ودون أن يكونوا مسؤولين عن أي شيء يتعلق بالبيت أو بالأولاد.

وتعترف أنه كان "لدلال" والدها تأثيرا على علاقتها بزوجها نوعا ما. "كانت علاقتي بوالدي سببا لبعض المشاكل مع زوجي؛ هو يرى أننا يجب أن نعلم الأولاد المسؤولية منذ الصغر، أما أنا فأعتقد أني سأتعامل مع أولادي مثلما تعامل معي أبي".

"همّ عيالي وبالجزمة حيرضوا"

عندما تتذكر أميمة ما فعله بها والدها تُصيبها نوباتُ غضب. "أعزل نفسي حتى أهدأ. لم أنس كيف كان يعاملني. لكني مع ذلك لا أستطيع التعامل معه بقسوة الآن فهو كبير بالعمر.. أتقي الله فيه".

هي اليوم في بداية الثلاثينيات من عمرها، ووالدها في الخامسة والسبعين - رجل محافظ، غير متعلم، غنيّ، كما تصفه، كان قد ترك عائلته في سوهاج في صعيد مصر قبل ستين عاما، مثله مثل كثيرين جدا، وقرر الاستقرار في مدينة بورسعيد الساحلية، وأسس بيتا للعائلة في أحد الأحياء الراقية.

تقول أميمة إنها كانت عنيدة وهي في سن المراهقة؛ لا تقول لوالدها "حاضر" عندما كان يفرض عليها القيام بأمور لم تكن تقنعها، لذا كان يضربها "زيادة" عن إخوتها الثلاثة. تتذكر أنه كسر يدها مرة لأنه كان قد حلف يمينا بالله بأن يضربها إن علا صوتها أثناء شجارها مع أختها. هي، علا صوتها، وهو فعلا ضربها بالعصا، وضرب أختها معها.

هي الأصغر في العائلة، وبقيت المدللة حتى عمر العاشرة، لكن بعد ذلك تغيرت معاملة والدها لها وبدأ يمنعها من لعب الكرة مع أولاد الجيران أو من ركوب الدراجة "لأنها بنت ولازم تبقي محترمة".

كان يصفها بأنها "خايبة (فاشلة)" طوال الوقت لأنها لم تكن قادرة على النجاح في دراستها رغم أنها كانت تمر بمشاكل في التعلم، ويحرمها من كل ما تريده، وكانت أحيانا تخاف الخروج من غرفتها حتى للأكل "خوفا منه"، ولكنه كان يعد نفسه "أحسن أب" لأنه كان يؤمن لهم "أحسن أكل، وأحسن شرب، وأحسن لبس".

تغّيرت حياتها بعد ذلك كثيرا، لأنها كانت مختلفة عن أخواتها "المستكينين"، كما تصفهم. بدأت برفض أخذ المصروف من أبيها حتى ولو اضطرت للذهاب مشيا إلى الجامعة كي "تتوقف سيطرتُه عليها" ووجدت عملا بسيطا، وعندما صارت في العشرين من عمرها اشتكته لأخوالها، لكنهم أخفقوا في إصلاح العلاقة بينهما. لذا قررت ترك البيت بعد مشكلة كبيرة مع أبيها، لتعيش مع خالتها عاما كاملا.

"لا أعرفُ إن كنت أحبه أو أكرهه"، تقول أميمة. "علاقتنا كانت معقدة جدا. ليس عندي أي تفسير للطريقة التي كان يتعامل معي بها طوال حياتي حتى العشرينيات.. ربما عندما أدرك أني أصبحت قوية وقادرة على الاعتماد على نفسي، والدفاع عن نفسي، غير أسلوبه معي تماما. كما أنه يخاف أن أغادر البيت مرة ثانية".

"ومع مرور السنين علم أنه قادر على الاعتماد علي خاصة بعد أن كبر بالعمر ومرض".

تزوجت أميمة لفترة قصيرة، لكنها تركت زوجها لأنه كان يؤذيها نفسيا، ولأنه ذكرها بوالدها، كما تقول.

"كان حبيبي.. أحببته بصدق وبإخلاص لكنني تعرضت للعنف من قبله وشعرت أني قد أواجه ما كنت أواجهه من والدي. ولم أكن قادرة أبدأ أن أحتمل ذلك من جديد".

حتى أنها قررت الإجهاض عندما كانت في بداية حملها "كي لا تضطر للتعامل أبدا" مع طليقها.

سألتها ما الذي كانت تريده من والدها.

"كنت أحب أن أحصل على حب منه على طول الأيام.. يمكن أنه قد يكون أحبني على طريقته التي اعتقد أنها صح.. كنت أتمنى لو بذل جهدا ليعرف ما أحب أنا وأخوتي.. وليس فقط كما كان يقول 'همّ عيالي وبالجزمة حيرضوا'".

"مقارنة الشريك مع الأب دائما موجودة"

توضّح الأخصائية النفسية، نيكول المرج، أن كثيرا من المشاكل النفسية التي تمر بها الشابات تعود إلى طبيعة العلاقات داخل العائلة، حتى أن بعض المشاكل مثل الاكتئاب أو اضطرابات الأكل أو عدم الرضا عن شكل الجسد، يكون سببها العائلة ولو بطريقة غير مباشرة.

ولجعل الأمور أبسط، تقول لي، "تخيلي أن الاحتياجات العاطفية مثل كأس يحتاج لأن يملأ.. إن بقي غير ممتلئ فسيؤدي إلى مشكلة".

لذا يعود المختصون النفسيون بالشخص إلى الماضي لفهم علاقتهم بأهلهم لتشخيص أمراضهم الحالية وعلاجها.

تقول د.نيكول: "العلاقة الصحية تعني وجود احترام متبادل وصدق وتواصل جيد وثقة، وأن يكون الأب موجودا عندما تحتاجه ابنته.. كل هذا يسهم في تكوين مبادئ الفتاة حول نفسها وحول العالم وحول الرجال أيضا.

يجب على الأب أن يخلق رابطا مع ابنته لأن لديها احتياجات عاطفية ينبغي الاهتمام بها".

تتفق معها الأخصائية النفسية، سيرين بلحاج، التي تعمل ضمن فريق "احكيلي" وهي خدمة إنصات في تونس للمحتاجين لخدمات الدعم النفسي.

وتحكي لي أمثلة، أحدها عن تعلق مرضي لشابة ما برجل فاشل "لملء الفراغ الناقص في حياتها"، وعن أخرى طورّت حالة من الهوس المرضي، كانت كلها عائدة لعلاقة سيئة مع الأب. وتقول "تؤثر العلاقات مع الأبوين على صحة الإنسان النفسية بطريقة عجيبة".

وتشرح سيرين أن الأب هو أول رجل في حياة ابنته، ولهذا تأثير كبير على كل حياتها، وعلى نظرتها لنفسها وثقتها بنفسها، وعلى اختيارها لشريكها. "دائما ستقارن الفتاة شريكها بوالدها بطريقة غير مباشرة وغير واعية؛ إذ أن تتكون شخصيتها عبر السنين وهي ترى أسلوب أبيها. صورة الأب هذه ستترك أثرا عليها، فتختار شريكها ليكون شبه والدها، أو بحيث لا يكون يشبهه أبدا.. المقارنة مع الأب دائما موجودة".

(بي بي سي عربي)

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).